فصل: تفسير الآية رقم (164):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فيأمره الحق أن يوضح: أنا قد أوحى الله إليَّ كما أوحى إلى الرسل السابقين، فهل أنتم شككتم في وحي الله لموسى؟ أشككتم في وحي الله لمن سبق موسى؟ صحيح أنكم شككتم في مسألة عيسى، لكن لنضع الأمر الذي تكذبون فيه جانبًا ولنأخذ ما أنتم مصدقون به، فيقول سبحانه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ}.
إذن فأنت يا محمد لست بدعًا في هذه المسألة: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} ويمر العلماء على هذه المسألة مرورًا سريعًا، لكننا نقف عندها ونقول: قد يوحي هذا القول أن أول وحي كان لنوح. والحقيقة أن الوحي الأول كان لآدم من قبل، لكنْ هناك فارق بين الوحي لآدم والوحي للأنبياء من بعده.
ومثال ذلك نوح، فنوح طرأ على أمته وكانت أمته موجودة ثم جاء هو إلى هذه الأمة مبشرًا ونذيرًا. أما آدم عليه السلام فقد طرأت عليه أمته؛ لذلك لم يرسله الله بمعجزة، فهو أب للجميع. والأبناء يقلدون الآباء، بل حتى أبناء الملاحدة يقلدون آباءهم. وقد أوحى الله لآدم وقال له: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وإرسال الهدى لآدم هو مجيء الوحي إليه.
ولماذا جاء نوح في هذه الآية أولًا؟ لأن نوحًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قد طرأ على أمته؛ لذلك احتاج إلى وحي وإلى معجزة. وأرسل الله نوحًا إلى الناس كافة؛ لعموم الموضوع، فلم يكن هناك من البشر غيرهم. لكنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أرسله الله للناس كافة؛ لأن الإسلام هو الدين الخاتم. وكان قوم محمد موجودين. وكذلك كان غيرهم موجودًا.
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ}. لماذا قال الحق: {والنبيين مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نوح؟، ولماذا قال: {وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ} وذكر أسماء الأنبياء من بعد إبراهيم؟
يقول العلماء: هنا عطف خاص على عام لزيادة التنبيه على شرف هؤلاء، {وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}، وكأن الحق يقول: حين يسألك اليهود- يا محمد- أن تنزل عليهم كتابا من السماء قل لهم: إن الله أوحى إليَّ كما أوحى إلى ألأنبياء السابقين؛ فلست بدعا من الرسل. وحتى لو أنزل إليهم محمد كتابًا في قرطاس ولمسوه بأيديهم لقالوا: هذا سحر مبين، كما قال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7]
فالمنْكِر يريد الإصرار على الإنكار فقط. وليست المسألة جدلًا في حق وإنما هي لَجَاج في باطل.
ويتابع سبحانه وتعالى أسماء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم: {وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} ونلحظ أنه جل وعلا ذكر الوحي عامًا؛ لكنه حينما جاء لداود ذكر اسمَ كتابِه الزبور ولم يأت في الآية بأسماء الكتب المنزلة على الرسل السابقين مثل نزول التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى؛ لأن ما جاء به داود في الزبور أمر تُجمع عليه كل الشرائع، وهو تحميد الله والثناء عليه قلم توجد في الزبور أية أحكام.
وقد يقول قائل: إن عيسى أيضًا لم تنزل عليه أحكام في الإنجيل. ونقول: لأن الإنجيل يلتحم بالتوراة؛ وجاء بالوجدانيات الدينية وكانت التوراة موجودة قبله وفيها الأحكام. ولذلك فمن عجيب أمر أهل الكتاب من يهود ونصارى، أنهم على رغم اختلافهم في قمة الأمور وهي مسألة عيسى وأم عيسى، جاءوا آخر الأمر ليلتقوا ويسموا الكتابين العهد القديم والعهد الجديد ويَعْتبروهما كتابًا واحدًا يسمونه الكتاب المقدس.
وما معنى الزبور؟ المادة كلها مأخوذة من زَبَرَ البئر، فعندما يقوم الناس بحفر بئر ليأخذوا منها الماء، يخافون أن ينهال التراب من جوانبها عليه فتمطر البئر؛ لذلك يصنعون لجدران البئر بطانة الحجارة، وفي الريف المصري نجد انهم يصنعون تلك البطانة من الأسمنت.
وكلمة زَبَرَ البئر تؤدي معنى كل عملية لإصلاح البئر؛ ثم أخذ الناس هذه الكلمة في معانٍ مختلفة، فسموا العقل زَبْرًا لأنه يعقل الأمور. وإذا كان السياج من الحجارة يعقل التراب عن البئر ويمنعه، فكذلك العقل يحمي الإنسان من الشطط وليضبط الإنسان حريته في إطار مسئوليته ليفكر، ويعقل الغرائز عن الفكاك بالإنسان إلى الشتات والضلال. ويخطئ الناس في بعض الأحيان في فهم معنى العقل؛ ويظنون أن العقل هو إطلاق الحبل على الغارب للأفكار دون انتظام او مسئولية، ونقول: افهموا أولًا معنى كلمة العقل حتى تعرفوا مهمته. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله سبحانه: {كَمَا أَوْحَيْنَا}: الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إيحاءً مثْلَ إيحَائِنَا، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدر المحذوف المقدَّرِ معرَّفًا، أي: أوحينَاهُ، أي: الإيحاءَ حال كونه مُشْبِهًا لإيحَائِنَا إلى مَنْ ذكر، وهذا مذهبُ سيبويه، وقد تقدَّم تحقيقه، وفي ما وجهان: أن تكون مصدريةً؛ فلا تفتقر إلى عائدٍ على الصحيح، وأن تكون بمعنى الذي، فيكون العائدُ محذوفًا، أي: كالذي أوحيناهُ إلى نوح، ومِنْ بعْدِهِ متعلقٌ بأوْحَيْنَا، ولا يجوز أن تكون مِنْ للتبيين؛ لأنَّ الحالَ خبرٌ في المعنى، ولا يُخْبَرُ بظرفِ الزمانِ عن الجثَّة إلا بتأويلٍ، وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق بنفس النَّبيِّينَ، يعني أنه في معنى الفعل؛ كأنه قيل: وَالَّذِينَ تَنَبَّئُوا من بَعْدِهِ وهو معنى حَسَنٌ.
وفي يُونُس ستُّ لغاتٍ؛ أفصحُها: واوٌ خالصةٌ، ونون مضمومة، وهي لغةُ الحجاز، وحُكِيَ كسرُ النونِ بعد الواو، وبها قرأ نافع في رواية حبَّان، وحُكِي أيضًا فتحها منقولَتَيْنِ من الفعل المبنيِّ للفاعل أو للمفعول، جعل هذا الاسم مشتقًا من الأنْسِ، وإنما أبُدلَتِ الهمزةُ واوًا؛ لسكونها وانضمام ما قبلها؛ ويدلُّ على ذلك مجيئه بالهمزةِ على الأصل في بعض اللغات؛ كما سيأتي، وفيه نظرٌ، لأن هذا الاسم أعجميٌّ، وحُكِي تثليث النون مع همز الواو؛ كأنهم قلبوا الواوَ همزةً؛ لانضمام ما قبلها؛ نحو: [الوافر]
أحَبُّ المُؤْقِدِينَ إليَّ مُؤْسَى

قال شهاب الدين: وقد تقدَّم تقريرُه، وحُكِيَ أنَّ ضمَّ النون مع الهمز لغةُ بعض بني أسدٍ، إلا أني لا أعْلَمُ أنه قُرِئَ بشيء من لغات الهمز، هذا إذا قلنا: إن هذا الاسمَ ليْسَ منقولًا من فِعْل مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول حالةَ كَسْر النون أو فتحها، أمَّا إذا قلنا بذلك، فالهمزةُ أصليةٌ غيرُ منقلبةٍ من واو؛ لأنه مشتق من الأنس، وأمَّا مع ضمِّ النونِ، فينبغي أن يُقال بأن الهمزة بدلٌ من الواو؛ لانتفاء الفعلية مع ضم النون.
قوله تعالى: {زَبُورًا} قرأ الجمهورُ بفتح الزاي، وحمزة بضَمِّها، وفيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه جمعُ زَبْرٍ قال الزمخشريُّ: جمع زَبْرٍ، وهو الكتابُ، ولم يَذْكر غيره، يعني أنه في الأصْل مصدرٌ على فعلٍ، ثم جُمِعَ على فُعُولٍ، نحو: فَلْسٍ وفُلُوسٍ، وقَلْسٍ وقُلُوسٍ، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسيُّ في أحد التخريجَيْنِ عنه، قال أبو عَلِيٍّ: ويحتمل أن يكون جمع زَبْرٍ وقع على المَزْبُور، كما قالوا: ضَرْبُ الأميرِ، ونَسْجُ اليَمَنِ فصار اسمًا، ثم جُمِعَ على زُبُور كشُهُود وشهد؛ كما سُمِّي المكتوبُ كِتَابًا، يعني أبو عليٍّ؛ أنه مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به؛ كما مثَّله.
والثاني: أنه جمع زَبُورٍ في قراءة العامة، ولكنه على حَذْفِ الزوائد، يعني حُذِفت الواوُ منه، فصار اللفظ: زَبُر، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليٍّ، قال أبو عليٍّ: كما قالوا: ظَرِيفٌ وظُرُوفٌ، وكَرَوَان وكِرْوان، وَوَرَشَان ووِرْشَان على تقدير حذف الياء والألف، وهذا لا بأس به؛ فإنَّ التكسير والتصغير يَجْريان غالبًا مجرى واحدًا، وقد رأيناهُمْ يُصَغِّرونَ بحذفِ الزوائد نحو: زُهَيْرٍ وحُمَيْدٍ في أزْهَرَ ومَحْمُودٍ، ويسميه النحويون تصْغير التَّرخيم، فكذلك التكسيرُ.
الثالث: أنه اسمٌ مفردٌ، وهو مصدرٌ جاء على فُعُول؛ كالدُّخُول، والقُعُود، والجُلُوس، قاله أبو البقاء وغيره، وفيه نظرٌ؛ من حيث إن الفُعُولَ يكون مصدرًا للازم، ولا يكون للمتعدِّي إلا في ألفاظ محفوظةٍ، نحو: اللُّزُومِ والنُّهُوكِ، وزَبَرَ- كما ترى- متعدٍّ، فيضعفُ جَعْلُ الفُعُولِ مصدرًا له.
قال أهل اللُّغَة: الزَّبُور الكِتَاب، وكُلُّ كِتَاب زَبُور، وهُو فَعُولٌ بمعنى مَفْعُول؛ كالرَّسُولِ والرَّكُوبِ والحَلُوب، وأصْلُه من زَبَرْتُ بمعنى كَتَبْتُ، وقد تقدَّم مَعْنَى هذه المادّة في آل عمران [آية 184]. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (164):

قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تم ما اقتضاه مقام النبوة، وكان فيهم رسل، وكان ربما قال متعنت: إن شأن الرسل غير شأن الأنيباء في الوحي، قال عاطفًا على ما تقديره من معنى أوحينا: أرسلنا من شئنا من هؤلاء الذين قصصناهم عليك هنا إلى من شئنا من الناس: {ورسلًا} أي غير هؤلاء {قد قصصناهم} أي تلونا ذكرهم {عليك} ولما كان القص عليه غير مستغرق للزمان الماضي قال: {من قبل} أي من قبل إنزال هذه الآية {ورسلًا لم نقصصهم عليك} أي إلى الآن.
ولما كان المراد أنه لا فرق بين النبي والرسول في الوحي نبه على ذلك بقوله: {وكلم الله} أي الذي له الكمال كله فهو يفعل ما يريد لا أمر لأحد معه {موسى تكليمًا} أي على التدرج شيئًا فشيئًا بحسب المصالح من غير واسطة ملك، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة، والمعنى أنكم لو كنتم إنما تتوقفون عن الإيمان ببعض الأنبياء تثبتًا لتعلموا أنه فعل به ما فعل بموسى عليه الصلاة والسلام من الكرامة، لم تؤمنوا بإبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط وهارون وغيرهم، فإنه خص بالتكليم دونهم، فلِمَ جعلتم الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام شرطًا في الإيمان ببعض الأنبياء دون بعض؟ وإن جعلتم الشرط الإتيان بالكتاب جملة ومن السماء مدعين أنه كان له ذلك دون التكليم وغيره مما جعل له، كان ذلك- على تقدير التسليم تنزلًا- تحكمًا وترجيحًا من غير مرجح، على أن التوراة أيضًا- كما تقدم بيانه- كهذا القرآن في إنزالها منجمة على حسب الوقائع على ما أشار إليه قوله: {تكليمًا} ولم يكتب منها جملة إلا اللوحان اللذان وضعا في تابوت الشهادة كما أنزل بعض سور القرآن جملة كسورة الأنعام، وليس في نزول موسى عليه الصلاة والسلام بهما من جبل الطور مكتوبَين دليل على نزولهما من السماء ويدل على ذلك كثير من نصوصها أصرحها أنه تعالى حرم عليهم العمل في السبت عقب إخراجهم من البحر عند إنزال المن- كما بين في السفر الثاني منهما- ولم يبين كيف يفعل بالعاصي فيه إلا بعد ذلك بدهر، بدليل ما في السفر الرابع منها في قصة التيه: ومكث بنو إسرائيل في البرية ووجدوا رجلًا يحتطب حطبًا يوم السبت، فقدمه الذين وجدوه يحتطب إلى موسى وهارون وإلى الجماعة كلها، وحبسوه في السجن، لأنه لم يكن أوحى إلى موسى كيف يصنع به؟ فقال الرب لموسى: يقتل هذا الرجل، يرجم بالحجارة خارجًا من العسكر، ورجمه الجماعة كلها بالحجارة ومات- كما أمر الرب موسى؛ ومنها أنه أمرهم- كما بين في السفر الثاني- بنصب قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها، ويسمع موسى الكلام منها، ثم بعد ذلك بمدة أمرهم- كما بين في السفر الرابع- بالزيادة فيها؛ ومنها أنه كتب له الألواح في الطور: اللوحين اللذين كسرهما غضبًا من اتخاذهم العجل، ثم لوحين عوضًا عنهما، ثم لما نصبت قبة الزمان صار سبحانه وتعالى يكلمه منها، وغالب أحكامهم إنما شرعت بالكلام الذي كان في قبة الزمان- كما هو في غاية الوضوح في التوراة؛ ومنها ما قال في أوخر السفر الخامس وهو آخرها: فلما أكمل موسى كتاب آيات هذه التوراة في السفر وفرغ منها، أمر موسى الأحبار الذين يحملون تابوت عهد الرب وقال لهم: خذوا سفر هذه السنن واجعلوه في جوف تابوت عهد الله ربكم في جانب من جوانبه، ليكون هناك شاهدًا، لأني قد عرفت جفاءكم وقساوة قلوبكم وما تصيرون إليه، وكيف لا يكون ذلك وقد أغضبتم الرب وأنا حي معكم؟ فمن بعد موتي أحرى أن تفعلوا ذلك، فليجتمع إليّ أشياخ أسباطكم وكتّابكم فأتلو عليهم هذه الأقوال، ولأشهد عليهم السماء والأرض، لأنكم مفسدون من بعد وفاتي، تحيدون عن الطريق الذي آمركم به، شر شديد في آخر الأيام إذا عملتم السيئات بين يدي الرب، وأغضبتموه بأعمال أيديكم، وقال موسى بين يدي جماعة بني إسرائيل: انصتي أيتها السماء فأتكلم، ولتسمع الأرض النطق من فيّ- وقال كلامًا كثيرًا في ذمهم أذكره إن شاء الله تعالى في المائدة عند {من لعنه الله وغضب عليه} [المائدة: 60] ثم قال: يقول الله: أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم، وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين- ومضى يتكلم من كلام الله الذي هو من أحسن التوراة إلى أن قال: فلما أكمل موسى هذه الآيات كلها لبني إسرائيل قال لهم: أقبلوا بقلوبكم إلى هذه الأقوال؛ ثم قال: وكلم الرب موسى ذلك اليوم وقال: اصعد إلى جبل العبرانيين، هذا جبل نابو الذي في أرض مواب حيال إيريحا، وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ميراثًا- وذكر بعد ذلك كلامًا طويلًا فيها كلها لمن يتأملها كثير مما هو ظاهر في ذلك، بل صريح، وفي قصة نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ما هو صريح في أن الإيحاء إليهما كان منجمًا- كما مضى عنهما في قصة إبراهيم عليه السلام في البقرة، ويأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الأحبار في الأعراف وفي قصة نوح عليه الصلاة والسلام في سورة هود- والله الموفق، وقد ابتدأ سبحانه في هذه الآية بنوح عليه الصلاة والسلام أول أولي العزم وأصحاب الشرائع وجودًا، وهو من أوائل الأنبياء، وزمانه في القدم بحيث لا يعلم مقداره على الحقيقة إلا الله تعالى، ثم ثنى بثانيهم في الوجود وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر أولاده على ترتيبهم، والأسباط يحتمل أن يراد بهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام أنفسهم وقبائلهم، ويكون المعنى حينئذ: وأنبياء الأسباط، ويكون مما استعمل في حقيقته ومجازه، ويكون شاملًا لجميع أنبياء بني إسرائيل، ثم صرح ببعض من دخل منهم في العموم فبدأهم بآخرهم بعثًا وهو عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو أحد نبي أهل الكتابين، وختم الآية بأحد أصحاب الكتب منهم، وهو جده المشهور بالنسبة إليه، فإن اليهود يقولون لعيسى عليه الصلاة والسلام: يا ابن داود! لأن أمه في ذريته، وختم الآية بأول نبي أهل الكتابين موسى عليه الصلاة والسلام الذي آخر آجرّ تبنى على الإسلام، فانتقله المنتمون إلى أتباعه، ووسّط أخاه هارون عليه الصلاة والسلام بين اثنين من أهل البلاء: أيوب ويونس واثنين من أهل الملك- وأحدهم صاحب كتاب- وهما سليمان وداود، وكل ذلك إشارة إلى أنه لا فرق في كيفية الإيحاء بحوما إلى الأنبياء بين متقدمهم ومتأخرهم، سواء كان من بني إسرائيل أو من غيرهم، وسواء منهم من أوتي الملك ومن لم يؤته، ومن أتى بكتاب ومن لم يأت؛ ومن لطائف هذا الترتيب أن المخصوصين بالذكر في الآية الأولى بعد دخولهم في العموم أحد عشر أسماء، الأسباط أحدها، والمشهور بالكتب والصحف منهم ثلاثة: إبراهيم وعيسى وداود، وقد وقع كل منهم سادسًا لصاحبه، وهو العد الذي كان فيه الخلق، فلعل ذلك إشارة إلى أن الله لا يحب العجلة، فكما أنه لم يعجل في إنشاء الخلق فكذلك لم يعجل بإنزال الكتب التي بها قوامهم وبقاؤهم دفعة، بل أنزلها منجمة تبعًا لمصالحهم وتثبيتًا لدعائمهم، ومن لطائفه أنه تعالى بدأ المذكورين، وختمهم باثنين من أولي العزم اشتركا في أن كلًا منهما أهلك من عانده كنفس واحدة بالإغراء، ترهيبًا لهؤلاء الملبسين على أهل الإسلام بالباطل المدعين أنهم أتباع، ووسّط بينهم وبين بقية المسمين عموم النبيين والمرسلين، ولعله آخر الرسل ليفهم أن كل من عطفوا عليه مرسل، ولأن رتبة النبوة قبل رتبة الرسالة، بمعنى أنها أعم منها.
ولما سرد أسماء من دخل في العموم بدأهم بأشرفهم ثم بالأقرب إلى هذا النبي الكريم فالأقرب من المرتبين على حسب ترتيب الوجود، إشارة إلى أنه سن به في الوحي سنة آبائه وإخوانهم وذرياتهم- والله أعلم. اهـ.